
بقلم: عمر حلمي الغول
شهدت القضية الفلسطينية خلال السبعين عاما الماضية صعودا وهبوطا في المحطات التاريخية، التي مرت بها. غير أنها بعد التوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد المصرية–الإسرائيلية 1978 و1979 أخذت خطاً بيانيا تراجعيا بالمعنى النسبي للكلمة. حيث خرجت من معادلة الصراع أكبر وأهم قوة عربية، هي مصر الشقيقة الكبرى، وهو حلم كل إسرائيلي، وهذا ما قاله أول رئيس وزراء إسرائيلي، بن غوريون “إن مصر، هي العدو الرئيسي لإسرائيل، وإن السلام معها، هو هدف كل إنسان في إسرائيل وحلمه. وإن الإسرائيليين مقتنعون، أنهم إذا حققوا السلام مع مصر، فإن الدول العربية ستضطر إلى سلوك نفس الطريق”[1]. ولكن كما يقول بن غوريون نفسه ليس لبلوغ السلام، إنما لتحقيق الأهداف الصهيونية ” إن اتفاقا مع العرب ضروري لنا، ولكن ليس من أجل خلق السلام في المنطقة، إن السلام وسيلة، أما الهدف فهو التحقيق الكامل والمطلق للصهيونية، ولهذا نحتاج إلى اتفاقية”[2]. ثم جاءت حربا الخليج الأولى والثانية في ثمانينات ومطلع تسعينات القرن العشرين لتلقيا بظلال كثيفة على وحدة النظام الرسمي العربي ومكانة القضية الفلسطينية، وتجلى ذلك في قمة عمان تشرين الثاني (نوفمبر) 1987، التي كاد بيانها الختامي يغض النظر عن ذكر قضية العرب المركزية. غير أن الانتفاضة الأولى 1987/1993 أعادت لها الاعتبار، وأرغمت أهل النظام السياسي العربي على التراجع عما كان معدا للقضية من تبهيت وتجاهل إن لم يكن أكثر. مع ذلك بقي الخط البياني يميل نحو الهبوط مع فقدانها حلفاء استراتيجيين بعد تفكك الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية مطلع التسعينات، وانتهاء الحرب الباردة، وتبوء الولايات المتحدة الأميركية سدة العرش في السياسة الدولية، وإعلان بوش الأب، رئيس الإدارة الأميركية آنذاك ولادة النظام الدولي الجديد، أي نشوء عصر العولمة الأميركية. الذي فتح أبواب العالم على مصاريعه أمام الهيمنة الكاملة للولايات المتحدة. وشكل منعطفا نوعيا في دور ومكانة إسرائيل في المنطقة والعالم. كونها جزءاً من مركبات القوة والسيطرة الأميركية على منابع النفط وعائداته النقدية والثروات العربية، ودرء الأخطار الافتراضية، التي يمكن أن تنشأ في الشرق الأوسط عموما.
انعكاسات العولمة على القضية والعرب:
ولتحقيق الهيمنة الأميركية وفق الاستراتيجية المعدة سلفا، اتجهت “لتوجيه الضربة الأولى في المنطقة الممتدة من البلقان وحتى آسيا الوسطى، مروراً بالشرق الأوسط والخليج.” وذلك لا يعود لاحتمال “وجود أعداء أقوياء، وإنما بالعكس لأن المنطقة تمثل البطن اللين للنظام العالمي، الذي يضم مجتمعات لا تستطيع لأسباب مختلفة مقاومة العدوان بالحد الأدنى من المقدرة .”[3] ليس هذا فحسب، إنما لتوجيه رسائل واضحة لمن يفكر من الأقطاب الدوليين بالاعتراض أو التفكير بعمل ما ضد إملاءات السيد الأميركي. وبالتالي إطلاق يد أميركا تفعل ما تشاء.
عصر العولمة الأميركي شكل رافعة قوية لدولة التطهير العرقي الإسرائيلية، وهيأ لها شروطا ذاتية وموضوعية لم تشهدها منذ قيامها في العام 1948 على انقاض نكبة الشعب العربي الفلسطيني. فجاء مؤتمر مدريد نهاية تشرين الأول (أكتوبر) 1991، ورغم اعتراض إسحاق شامير آنذاك على المؤتمر والمشاركة الفلسطينية الملتبسة في إطار الوفد الأردني، إلا أن الخطة الأميركية لم تتوقف، لأنها وضعت على مقاس المصالح الإسرائيلية الاستراتيجية. وما شهدته المنطقة من تطورات عاصفة بعد التوقيع على اتفاقيات أوسلو 1993، عكس تلك الحقيقة، التي تكتوي الأمة العربية وشعوبها عموما والشعب الفلسطيني خصوصا بها الآن. لا سيما وأن تلك الاتفاقيات، مع ما حملته من نشوء السلطة الوطنية الفلسطينية (الحكم الإداري الذاتي)، وعودة مئات الألوف من الفلسطينيين إلى أرض الوطن المحتل، غير أنها أطلقت يد إسرائيل المارقة والخارجة على القانون لاستباحة الأرض والحقوق والمصالح الوطنية. كونها جاءت مبهمة وضبابية وتحتمل التأويل في كل بند من بنودها. فضلا عن أنها تركت قضايا الحل النهائي دون معالجة واضحة ودقيقة. وأتاحت للقيادات والحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أولا التراجع عن مبدأ “الأرض مقابل السلام”، وامسى شعارهم “الأمن مقابل السلام”. وهو ما يعني صراحة عدم وجود أرضية حقيقية لدفع عملية السلام وخيار حل الدولتين على حدود الرابع من حزيران (يونيو) 1967. ثم ظهر شعار “عدم وجود شريك فلسطيني”، وتعزز ذلك بعد اشتعال انتفاضة الأقصى 2000-2005، التي لم تُدرْ بشكل جيد، وسهلت على حكومة إسرائيل اليمينية استغلالها أميركا وعالميا، لا سيما وأن إدارة بوش الابن كانت مستعدة وجاهزة للتساوق مع الرؤى الإسرائيلية المعادية للسلام. وأعطت الضوء الأخضر لشارون لاجتياح أراضي السلطة الوطنية عام 2002 في أعقاب أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، في الوقت، الذي صادقت فيه قمة بيروت العربية 2002 على مبادرة السلام العربية. وهنا يقول آفي ديختر، رئيس الشاباك، وعضو كنيست عن حزب كاديما ووزير الأمن الداخلي سابقا “أنا قلت لشارون إذا لم تنفع القوة مع العرب فسينفع المزيد من القوة..”[4] لأن هناك قناعة عند قادة إسرائيل، أن العرب عموما والفلسطينيين خصوصا “لا يفهمون غير لغة القوة.” كما قال نتنياهو في كتابه “مكان بين الأمم”.[5] وفتحت اتفاقيات أوسلو (وهي الامتداد الطبيعي لكامب ديفيد المصرية) الباب واسعا أمام عملية التطبيع الرسمية العربية العلنية والسرية مع دولة الاحتلال والعدوان الإسرائيلية. لأن الدول العربية كانت جاهزة ومستعدة لهذه الخطوة من دون وقبل التوقيع على أوسلو، لكنهم علقوا تطبيعهم على شماعتها، وتسابقوا في مد الجسور السياسية والديبلوماسية والاقتصادية والأمنية مع إسرائيل، مما أعاق حتى الآن تحقيق أي تقدم في التسوية السياسية على المسار الفلسطيني الإسرائيلي. ولم يكن لجوء القيادة الفلسطينية لسراديب أوسلو نزوة أو ناجماً عن ردة فعل اعتباطية. بل جاءت نتاج قراءة موضوعية لاشتراطات اللحظة السياسية، حيث أخذ النظام السياسي العربي بالتحلل التدريجي من دعم الانتفاضة الكبرى، وبات يضغط على القيادة بوسائل وأساليب مختلفة، مما حتم على قيادة منظمة التحرير البحث عن الذات، وعدم السماح بإخراج القضية عن مشهد السياسة العربية والدولية. غير أنها لم تحسن مرة أخرى إبرام اتفاقية تتناسب مع أهداف وتضحيات الشعب العربي الفلسطيني. مما أدخل الساحة والقضية والأهداف الوطنية في مأزق خطير، رغم كل النجاحات والإنجازات، التي تحققت.
تلازم ما تقدم مع شروع بناء مخطط الشرق الأوسط الجديد الأميركي الإسرائيلي من خلال إعادة تقسيم دول العالم العربي إلى دويلات إثنية ودينية وطائفية ومذهبية. يقول في هذا الصدد الجنرال الأميركي المتقاعد والقائد الأعلى لحلف شمال الأطلسي وللقوات الأميركية في أوروبا، ويسلي كلارك: “بعدعشرة أيام على أحداث 11 أيلول ذهبت إلى البنتاغون، التقيت وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفويتز (وهو من أبرز المحافظين الجدد ومن أشد أنصار إسرائيل)… قال لي أحد الضباط: سيدي .. لقد اتخذنا القرار، سنشن الحرب على العراق. كان هذا في 20 أيلول (سبتمبر).” ثم يتابع الجنرال كلارك “عدت بعد عدة أسابيع، وسألت الضابط هل ما زلنا ذاهبين إلى الحرب في العراق، فأجابني إن الأمر أسوأ من ذلك. وأمسك بورقة وقال أرسلوها لي من مكتب وزير الدفاع، وهي مذكرة توضح كيف سندمر سبع دول في غضون سبع سنوات بدءا من العراق ثم سوريا ولبنان وليبيا والصومال والسودان وصولا لإيران.”[6] وهذا ما يتوافق مع الاستراتيجية الإسرائيلية، التي وضعتها المنظمة الصهيونية العالمية عام 1982، وكتبها يورام بيك، رئيس المنشورات في قسم المعلومات في المنظمة، وترجمها إسرائيل شاحاك، أستاذ الكيمياء في الجامعة العبرية، ونشرت في مجلة “كيفونيم” (اتجاهات) جاء فيها “إن تفكيك سوريا والعراق لاحقا، إلى مناطق عرقية ودينية كما في لبنان، هو هدف إسرائيل الأول على جبهتها الشرقية على المدى الطويل، بينما تفكيك السلطة العسكرية لهذه الدول، هو هدفها في المدى القصير.” ويتابع “هذا الوضع سيكون ضمانة للسلام (أسوة بسلام بن غوريون سابق الذكر) والأمن في المنطقة على المدى الطويل. وهذا الهدف هو بالفعل بمتناول أيدينا اليوم”.[7] وتعميقا لفكرة الحرب على العراق، يقول مايكل كولينز، “إن الحرب ضد العراق وخطة السيطرة والهيمنة على الشعوب العربية، هي تنفيذ للحلم الصهيوني التاريخي بإنشاء “إسرائيل العظمى” بصورة عصرية ومعدلة، لكي تتوافق مع رغبات شركات البترول العالمية، والمستعدة بدورها للمساهمة في السيطرة على الدول العربية المنتجة للبترول بالمشاركة مع إسرائيل.{C}[8]{C} وهذا أيضا ما يؤكده السفير الفرنسي السابق في سوريا، ميشال ريمبو، الذي كتب، إن الحرب السورية، هي “لمصلحة إسرائيل” معتبرا أنه “من الناحية الإستراتيجية، فإن حلم التفكيك، الذي دغدغ أوساط المحافظين الجدد في واشنطن وتل أبيب، يهدف إلى ضمان الدولة العبرية على نحو يضمن هيمنتها الإقليمية بلا منازع، خصوصا في المجالين الاقتصادي والعسكري، ومن وجهة نظر واشنطن فإن الاستراتيجية المفضلة تكمن في زرع الفوضى عند العدو”.{C}[9]{C} وذلك لتصفية القضية الفلسطينية. ويكتب نورمان بودهريتز مقالة في مجلة “كومنتري” في أيلول (سبتمبر) 2002، وهي مجلة المحافظين الجدد وذات تأثير واسع، وتصدرها اللجنة الأميركية–اليهودية البارزة في أميركا، يعترف فيه صراحة “أن الهدف النهائي لسياسة بوش، إذا تم تنفيذها كاملة–سيكون إخضاع وإذلال الشرق الأوسط العربي الذي نعرفه اليوم.”{C}[10]{C} ويضيف بودهريتز تأييده لأجندة بوش ومهللاً بالنتائج النهائية لتلك السياسة، كما يراها هو ورفاقه من المحافظين الجدد: “إن الأنظمة، التي تستحق أن تقلع من جذورها، ويجب أن تستبدل ليست محصورة بدول محور الشر (العراق، إيران، كوريا الشمالية) وعلى الأقل يجب أن يوسع المحور ليشمل سوريا ولبنان، إضافة إلى بعض أصدقاء أميركا مثل العائلة الحاكمة في السعودية وحتى حسني مبارك، رئيس جمهورية مصر، إضافة إلى السلطة الفلسطينية سواء كان يحكمها عرفات أو أحد أتباعه.”{C}[11]{C} وهو ما يؤكد حقيقة ثابته في السياسة الأميركية، أن لا أصدقاء لأميركا سوى مصالحها الحيوية وإسرائيل قوية. وهو ما يؤكده الصحافي الأميركي، جو كلاين في مقالة بعنوان “كيف التفت إسرائيل في العراق” فيقول “إن فكرة تحقيق “إسرائيل أقوى” تدخل ضمن مسوغات الحرب على العراق”. ويتابع “وسوف يرسل (بوش) رسالة إلى الفلسطينيين كذلك: طبقوا الديمقراطية وادخلوا في سلام وفق شروط إسرائيل، وإلا فلا تحلموا بدولة لكم. وحتى في أسوأ الاحتمالات سوف يؤدي انهيار الملكية المتصدعة في الأردن لإنشاء دولة فلسطينية في الضفة الشرقية من نهر الأردن.”{C}[12]{C} وهو ما يعني التكامل بين سياسة إدارة بوش الابن والليكود في إسرائيل، وهذا ما أوضحه الكاتب روبرت كيزر في مقالة بعنوان “بوش وشارون متطابقان بخصوص سياسة الشرق الأوسط” نشرتها صحيفة “الواشنطن بوست” في التاسع من شباط (فبراير) 2003 فيقول: “للمرة الأولى تسعى حكومة الولايات المتحدة وحكومة الليكود في إسرائيل نحو تحقيق سياسات متطابقة، ففي السابق كانت حكومات الولايات المتحدة… تتجنب المودة الزائدة في التعامل مع حزب الليكود وشارون، نائية بالولايات المتحدة عن الفظاظة المعهودة لحزب الليكود في تعامله مع الفلسطينيين. أما اليوم فإن إسرائيل والولايات المتحدة تجمعهما نظرة واحدة مشتركة حول الإرهاب والسلام مع الفلسطينيين والحرب على العراق وأكثر من ذلك.”{C}[13]{C} ولا تنحصر العلاقات الثنائية المشتركة في التطابق المعلن، بل إن رموز المحافظين الجدد كانوا يوجهون سياسات قادة الليكود، ويقدمون الرؤى لتصفية عملية السلام، وهذا ما فعله ريتشارد بيرل، رئيس مجلس سياسة الدفاع، عندما كان يرأس مجموعة باحثين قدمت توصيات إلى بنيامين نتنياهو أثناء توليه رئاسة الحكومة الأولى له عام 1996/1999، وجاء فيها: “وجوب التخلي عن اتفاقيات أوسلو للسلام… ورفض الأساس، الذي قامت عليه– وهي فكرة “الأرض مقابل السلام”. وأنه يجب على إسرائيل، أن تصر على اعتراف العرب بشرعية مطالبة إسرائيل بالحدود التوراتية لأرض إسرائيل.”{C}[14]{C}
مما ورد أعلاه، يلاحظ أن العولمة الأميركية استهدفت العالم أجمع بأقطابه ودوله دون استثناء، لفرض سياساتها وخططها على الجميع وبما يستجيب لمصالحها وشركاتها الفوق قومية. غير أن حصة العرب كانت كبيرة في عمليات العبث بمصيرهم ومصير دولهم وأنظمتهم السياسية بغض النظر إن كانت ملكية أم جمهورية، محافظة أم لا. لا تميز بين صديق وعدو فيما بينهم. الجميع بالنسبة للإدارات المتعاقبة أدوات لتنفيذ مآربها ومخططاتها. الرافض لسياساتها تستغل مواقفه للتحريض عليه، والإسراع في تصفية شخصه ونظامه السياسي. والموالي التابع لسياساتها تستغله كأداة رخيصة في التواطؤ على الآخر العربي، وتفرض عليه إملاءاتها السياسية والاقتصادية والأمنية. مع الفارق الكبير بالنسبة للشعوب العربية بين نظام تابع للولايات المتحدة، وبين نظام رافض لسياسة الخنوع والإملاءات الأميركية. وبعيدا عن نظرة العرب لأنظمتهم، فإن أميركا تعتبر التمييز بينهم نسبياً ومؤقتاً. بتعبير آخر لا حصانة لأي نظام عربي. لأن خطة تمزيق وإعادة تقسيم الدول العربية على الأساس الديني والطائفي والمذهبي والإثني مع حلول الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس بيكو 1916 الفرنسية- البريطانية أعدت سلفا، لأن نظام الدولة الوطنية استنفدَ مهامه من وجهة نظر أميركا وربيبتها إسرائيل. و”أدركت واشنطن أن خطة “الجيل الرابع من الحرب”، التي تعتمد على تفتيت المجتمعات من الداخل، هي وحدها، التي يمكن أن تحقق الهدف بلا خسائر أميركية في المقابل، وكان المحافظون الجدد، الذين أحاطوا ببوش من كل اتجاه قد استعدوا للمرحلة الجديدة، وحددوا خياراتها وآلياتها (…) في هذا الوقت ظهرت فكرة مشروع الشرق الأوسط الكبير، التي تحددت معالمها في مؤتمر جورجيا، الذي عقد بحضور رؤساء الدول الصناعية الثماني في نفس العام 2004، وكان الهدف، هو إعادة صياغة خريطة الوطن العربي على أسس جديدة، تقضي بتقسيم الدولة الوطنية إلى دويلات طائفية وعرقية.”{C}[15]{C} وهو ما تم تنفيذه جيدا مع اندلاع شرارات ثورات الربيع العربي نهاية 2010 ومطلع 2011، وأدت لسقوط نظامي زين العابدين بن علي في تونس ومبارك في مصر ولاحقا القذافي في ليبيا. وما زالت تعيش سوريا منذ خمس سنوات خلت صراعا لتفكيكها إن استطاعت الولايات المتحدة وحلفاؤها. وكذلك انطلقت شرارة التغيير في اليمن، التي تعيش حالة صراع محتدمة بين قوى التحالف العربية (دول الخليج بقيادة المملكة السعودية) وبقايا نظام علي عبد الله صالح والحوثيين. وشهدت البحرين صراعا بين السلطة والمعارضة، تم عمليا القضاء عليها بدعم من دول مجلس التعاون الخليجي. وكان تم تمزيق الصومال إربا، والسودان جرى تقسيمها، وخلق دولة جنوب السودان. وقبل ذلك كانت حركة حماس، فرع جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين قامت بتفيذ انقلابها الأسود على الشرعية الوطنية في حزيران (يونيو) 2007. وشكلت بذلك رأس حربة للمشروع الإخواني في تمزيق وحدة شعوب ودول الأمة العربية. ولا يبدو أن مخطط الولايات المتحدة وإسرائيل قد توقف عند حدود ما جرى ويجري. حيث ما زالت المنطقة حيلى بالتطورات لبلوغ كامل أهداف مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد إن استطاعت ذلك.
الإخوان المسلمون أداة أميركا لتنفيذ مخططها:
في لقاء جمع كلاً من الوزير عمر سليمان المصري وجورج تينت، مدير الـCIA في عام 2004، يقول سليمان مخاطبا تينت “أرجو أن تثق أنه إذا سقط الرئيس مبارك فسوف تعم الفوضى والإرهاب، كما أن جماعة الإخوان المسلمين ستسيطر على البلاد بكل سهولة”. رد محاوره الأميركي “المخطط يمضي سريعا، والإخوان أبدوا استعدادهم للتحالف مع الولايات المتحدة، وهم دائمو الاتصال مع موظفي سفارتنا في القاهرة، وهناك عناصر منهم تأتي إلى الولايات المتحدة وتقابل كبار المسؤولين، وأعتقد أن المخطط قطع شوطاً كبيرا على طريق التنفيذ.”{C}[16]{C} وهذا ما يؤكده ثروت الخرباوي، القيادي الإخواني المنشق بقوله: “في ضحى أحد أيام عام 2003 توجهت أنا وخالد بدوي ومختار نوح للقاء الدكتور سعد الدين إبراهيم، مدير مركز ابن خلدون، الذي كان خرج من السجن آنذاك” وتذكروا معا ما كان يدور بينهم من حوارات أهمها ما يتعلق برغبة الإخوان في التقارب من الغرب، ومن الحوار عرفت أن الدكتور عصام العريان الإخواني الشهير حين كان في السجن فتح هو الآخر حوارا مع الدكتور سعد بهدف التقارب مع أميركا على وجه الخصوص، وأن الدكتور سعد وعده أن يبذل جهده في الأمر.”[17] وفعلا بدا جليا، أن الإخوان أمسوا الحصان الأميركي الرابح، لا سيما وأن لهم رصيداً كبيراً في الشارع العربي عموما ومصر خصوصا، ويتمتعون بخبرة تنظيمية جيدة، وهم الأقدر على الوفاء بالالتزامات، التي يتعهدون بها، خاصة وأن علاقاتهم مع الغرب لم تنقطع يوما منذ التأسيس في العام 1928، وكانت كل من لندن وبرلين وسويسرا مراكز لقياداتهم ومصالحهم المالية والتجارية والسياسية والبحثية بالإضافة لدول الخليج العربي.
كان “الإخوان قد أبدوا استعداهم في اللقاءات، التي جرت معهم في هذه الفترة بالموافقة على الأجندة الأميركية، وهو ما دعا مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق ورئيسة المعهد الديمقراطي الأميركي.. إلى أن تصرخ أثناء وجودها في دبي في الأول من كانون الأول (ديسمبر) 2005 بالقول “إن استبعاد الإسلاميين يعُتبر خطأً فادحا”، وحذرت أولبرايت الإدارة الأميركية من دعم إصلاحات زائفة تؤدي إلى عزل المعارضة الإسلامية، واعتبرت أن “أنجح وسيلة لانحسار التطرف في الشرق الأوسط، هي السماح للمعارضة الإسلامية غير العنيفة بالمشاركة في الحياة السياسية.”{C}[18]{C} وهو ما يعني طي صفحة الأنظمة التقليدية، وفتح الباب أمام التغيير المنسجم مع مخطط التدمير المنهجي لركائز الدولة الوطنية، وخلق الشروط المؤاتية لبناء الدويلات الاثنية والدينية والمذهبية عبر الاعتماد على جماعة الإخوان المسلمين. وهو ما عمقته كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأميركية الأسبق، عبر تبنيها مبدأ “الفوضى الخلاقة”، التي تعني في مضمونها “التخلي عن “مفاهيم الأمن والاستقرار” حتى لو تسبب ذلك في اسقاط العديد من الأنظمة الحليفة والموالية للولايات المتحدة، بزعم أن هذه الفوضى حتما سينتج عنها وضع أفضل من الأوضاع السائدة في المنطقة، وقد أكدت ذلك تفصيلا في حديثها للواشنطن بوست بتاريخ 19 نيسان (أبريل) 2005.”{C}[19]{C} وكان الرئيس بوش الابن سبق وزيرتي الخارجية آنفتي الذكر في البدء بطرح مشروع تصفية المشروع الوطني الفلسطيني أثناء لقائه الرئيس حسني مبارك عام 2004، حينما طلب منه منح الفلسطينيين مساحة 1600كم2 “لإقامة دولتهم (غزة الكبرى) داخل سيناء، وإقامة قاعدة أميركية على الأراضي المصرية.”{C}[20]{C} وهو ما رفضه آنذاك الرئيس المصري المتنحي، غير أن الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي وافق عليه، ولولا الثورة الثانية، ثورة الثلاثين من حزيران (يونيو) 2013، لكان المخطط الإسرائيلي، الذي طرحه مطلع 2010 اللواء احتياط غيورا إيلاند، مستشار الأمن القومي السابق قيد التنفيذ.
مما تقدم نلحظ، أن عملية التحضير للانقلاب الأسود على الشرعية الفلسطينية، كان أحد ركائز المخطط الأميركي الإسرائيلي. وهو مرتبط ارتباطا عميقا بالعملية الأوسع لإزالة وإسقاط النظم السياسية القائمة بالاعتماد على جماعة الإخوان المسلمين، الذين ارتضوا لعب دور حصان طروادة في دول العالم العربي المختلفة بهدف تمزيقها وتقسيمها لدويلات قزمية دينية ومذهبية وإثنية، كما جرى ويجري في العراق وسوريا وليبيا والصومال واليمن والسودان بتفاوت وفق ظروف كل ساحة من الساحات.
تداعيات الثورات العربية على القضية الفلسطينية:
كما لاحظ المتتبع لتطور الأحداث، فإن القضية الفلسطينية دفعت الفاتورة الأعلى من رصيدها ومكانتها، نتاج التآكل الحاصل في الساحات العربية، بفعل التشظي والحروب الأهلية والخارجية، على الدول والشعوب العربية المنكوبة أولا بإفلاس الأنظمة العربية التسلطية وغير الديمقراطية، التي تاجرت بالقضية الفلسطينية دون الإسهام الحقيقي في بناء قواعد ارتكاز سياسية وعسكرية واقتصادية لدعم كفاح الشعب العربي الفلسطيني، هذا غير تواطؤ البعض على الثورة الفلسطينية وقيادتها، والعمل على احتوائها لاستخدامها كورقة لتحسين مكانة هذا النظام أو ذاك، مما كفر الجماهير العربية من الشعارات القومية الداعمة للشعب العربي الفلسطيني، وثانيا بصعود قوى الثورة المضادة ممثلة بجماعات التكفير الإسلاموية في زمن ثورات الربيع العربي، والتي انبثقت من رحم جماعة الإخوان المسلمين بدءا من تنظيم “القاعدة” مرورا بتنظيم الدولة في العراق والشام “داعش” و”النصرة” أو “جيش الفتح الإسلامي” الآن أو “الحشد الشعبي في العراق” وغيرها من المسميات المتوالدة كالفطر باسم الدين والطائفية والمذهبية، والتي غيبت كليا مكانة القضية الفلسطينية عن الجماهير العربية، وأدخلتها في دوامة البحث عن ملاذ آمن للبقاء، وثالثا نتاج غياب القوى الوطنية والقومية الديمقراطية عن المشهد، وإن وجد بعضها، فهو ضعيف ومتعب ويعاني من الإحباط والهزيمة. مما أفرز واقعا مأساويا أساء لمكانة القضية الفلسطينية، ووضعها في آخر سلم الاهتمامات العربية الرسمية والشعبية. وزاد الطين بلة الانقلاب الحمساوي على الشرعية، وعدم تمكن القيادة من تحقيق هدف الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران عام 1967، وتحقيق العودة للاجئين الفلسطينيين على أساس القرار الدولي 194. ويقول بهذا الصدد الكاتب الأميركي توماس فريدمان “إن الفلسطينيين الآن لوحدهم أكثر من أي وقت مضى بسبب التحول الكبير في التركيز العالمي حول القضايا في الشرق الأوسط.”{C}[21]{C} فاحتل الملف النووي الإيراني ثم قضية الصراع الدائر في سوريا وليبيا والعراق واليمن وحتى مصر والبحرين وتونس وقضية المهاجرين العرب والأفارقة إلى أوروبا والغرب عموما الأولوية على حساب القضية الفلسطينية. ولم تعد الدول العربية الباقية أو المنخرطة في حروب بينية أو أهلية تولي القضية الفلسطينية الأولوية. لأن هناك ما يتقدم عليها في الشأن الداخلي. كما أن الظروف العربية بعد تراجع مكانة الجامعة العربية، المؤسسة الرسمية العربية، وغياب الضوابط السياسية، واستغلال العديد من الأنظمة حالة التفكك الرسمية والشعبية، والتراجع الملحوظ لمكانة قضية العرب المركزية، سمحت لها بالتطبيع المجاني العلني والسري مع دولة الاحتلال الإسرائيلية بذريعة أن العدو الأول لها، هو إيران، الأمر الذي جعلها تندفع دون أية حسابات لمصالح الأشقاء الفلسطينيين نحو توطيد العلاقات مع إسرائيل الاستعمارية، وعلى حساب العملية السياسية، ودون الالتزام بما جاء في مبادرة السلام العربية، وهو ما أعلنه مؤخرا بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة إسرائيل بالقول: “هناك عدد كبير من الدول العربية، التي حاربتنا في الماضي تقف معنا اليوم وإلى جانبنا وعلى نفس الجانب في المتراس”، ويضيف: “وأنا لا أقصد هنا الدول، التي نرتبط معها بمعاهدات سلام فقط.”{C}[22]{C} أي دول عديدة من الخليج إلى المحيط. وبفعل التشظي والتمزق الجهوي “والاجتماعي والسياسي (داخل البلدان العربية)… ليس من المتصور أن يستطيع الغارقون في هذا المشهد، أن يمدوا أبصارهم خارجه، إلا إذا كانوا باحثين عن عون وليس عن التزامات.”{C}[23]{C} والمفارقة، التي تسترعي الانتباه “أنه في زمن ما يسمى الربيع العربي يتزايد النفوذ الأميركي والغربي (والإسرائيلي) في المنطقة العربية بحيث لم تعد ولو دولة واحدة خارج إطار هذا النفوذ، وإنه في زمن ما يسمى الربيع العربي يزداد الاستيطان الإسرائيلي والتهويد في الضفة والقدس وتدنيس المقدسات بشكل غير مسبوق. كما يزداد الوضع المالي والاقتصادي تدهورا، بل حتى الجهود العربية لإتمام المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام توقفت.”{C}[24]{C} وبالنتيجة فإن القضية الفلسطينية بسبب الشروط الذاتية والموضوعية المحيطة بها أدت إلى تآكل مكانتها ودورها “في سلم الاهتمامات العربية والإقليمية والدولية شعبيا ورسميا (رغم اتساع نطاق وفعل حملة الـBDS على الصعد المختلفة، وما تمكنت القيادة من إنجازه على الصعيد الأممي وخاصة رفع مكانة فلسطين لمكانة دولة مراقب في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012) إذ لم تعد قضية فلسطين، هي ذاتها، ولم تعد العناوين المطروحة تستجلب تعاطف المجتمعات العربية أو الرأي العام العالمي.”{C}[25]{C} وبسبب هذا الوضع وصل أحمد أبو الغيط، أمين عام الجامعة العربية إلى استنتاج مفاده “أن القضية الفلسطينية تمثل نموذجا صارخا لعجز المجتمع الدولي عن الوفاء بالتزاماته وتنفيذ قراراته واحترام مواثيقه”.{C}[26]{C} الأمر الذي يستوجب من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والقوى السياسية الوطنية أولا وقبل كل شيء العمل على إعادة نظر في آليات التعامل مع دولة الاحتلال الإسرائيلية بما يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية والمشروع الوطني، وكخطوة على هذا الصعيد تستوجب الضرورة خلق الميكانيزمات الضرورية لتجسير الوحدة الوطنية وطي صفحة الانقلاب الحمساوي الأسود على الشرعية مرة وإلى الأبد، وبناء شراكة سياسية حقيقية ترتكز على برنامج سياسي مختلف يستجيب لمصالح وطموحات الشعب، ووضع رؤية كفاحية تزيد من كلفة الاحتلال الإسرائيلي، والعمل على تعميق الروابط القومية مع الكل العربي وخاصة القوى الشعبية دون إغفال أهل النظام الرسمي، رغم المعرفة المسبقة بمثالب وعيوب ونواقص الأنظمة القائمة، وأيضا بناء تحالفات دولية أكثر ثباتا، وإلغاء دور الولايات المتحدة كراعٍ لعملية السلام.
نقلا عن شؤون فلسطينية
الهوامش:
{C}
{C}
{C}[*]{C}
{C}
{C}
{C}[1]{C} حمد موعد. كتاب “إسرائيل والمتغيرات الدولية”. صادر عن دار كنعان للدراسات والنشر. ص49. دمشق/سوريا. الطبعة الأولى 1991.
{C}[2]{C} المصدر نفسه، ص 49/50.
{C}[3]{C} سمير أمين. دراسة “البديل للنظام النيوليبرالي المعولم والمسلح– الإمبريالية اليوم وحملة الولايات المتحدة للسيطرة على العالم”. مجلة “قضايا فكرية”. الكتاب الحادي والعشرون. ص299. مكتبة مدبولي. القاهرة. مصر. كانون الثاني (يناير) 2005.
{C}[4]{C} سامي كليب. كتاب “الأسد بين الرحيل والتدمير الممنهج–الحرب السورية بالوثائق السرية”. ص424. دار الفارابي. بيروت/ لبنان. الطبعة الثانية كانون الثاني (يناير) 2016.
{C}[5]{C} المصدر نفسه، ص 422.
{C}[6]{C} المصدر نفسه، 425/426.
{C}[7]{C} المصدر نفسه، 41.
{C}[8]{C} مايكل كولينز. كتاب “كهنة الحرب الكبار”. ترجمة عبد اللطيف أبو البصل. صادر عن مكتبة العبيكان السعودية بالتعاقد مع أميركان فري برس. الطبعة العربية الأولى 2006. ص26.
{C}[9]{C} سامي كليب. كتاب “الأسد بين الرحيل والتدمير…” مصدر سبق ذكره، ص 439.
{C}[10]{C} مايكل كولينز. كتاب “كهنة الحرب الكبار”. مصدر سبق ذكره، ص 124/125.
{C}[11]{C} المصدر نفسه، ص 126.
{C}[12]{C} المصدر نفسه، ص137/138.
{C}[13]{C} المصدر نفسه، ص143.
{C}[14]{C} المصدر نفسه، ص 144.
{C}[15]{C} مصطفى بكري. كتاب “الصندوق الأسود–عمر سليمان”. ص 42/43. صادر عن مؤسسة “اليوم السابع” الإعلامية المصرية. الطبعة الأولى 2015.
{C}[16]{C} المصدر نفسه، ص 45/46.
{C}[17]{C} ثروت الخرباوي. كتاب “سر المعبد– الأسرار الخفية لجماعة الإخوان المسلمين”. ص132. صدر عن دار نهضة مصر للنشر. الطبعة الخامسة 2013.
{C}[18]{C} مصطفى بكري. كتاب “الصندوق الأسود..” مصدر سبق ذكره، ص 58.
{C}[19]{C} المصدر نفسه، ص 59.
{C}[20]{C} المصدر نفسه، ص 42.
{C}[21]{C} توماس فريدمان. مقال نشر على وكالة “وفا” ووكالة “معا” يوم الخميس الموافق 27/10/2016
{C}[22]{C} بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل. من خطاب ألقاه يوم الخميس الموافق 27/10/2016 خلال حفل إزاحة الستار عن نصب تذكاري جديد تخليد لسفينة: “نتلتا”.
{C}[23]{C} صالح السنوسي. مقال “القضية الفلسطينية في زمن الربيع العربي. الأربعاء الموافق 29/1/2014. موقع “الجزيرة نت”.
[24] إبراهيم أبراش. بحث بعنوان “تغير الهوية في المشهد السياسي العربي وتأثيره على خيار المقاومة والتسوية في فلسطين”. 5/3/2013. موقع “زمن برس”.
[25] ماجد كيالي. مقال بعنوان “في السؤال عن أسباب تراجع القضية الفلسطينية”. صحيفة “الحياة” اللندنية. تاريخ 23/7/2013.
[26] أحمد أبو الغيط. الأمين العام لجامعة الدول العربية، خطاب أمام “خلوة الاتحاد الأفريقي” التي عقدت في مدينة شرم الشيخ. بتاريخ 27/10/2016.